الحق في المدرسة في تونس بين بريق التشريع وظلمة الواقع


2015-10-07    |   

الحق في المدرسة في تونس بين بريق التشريع وظلمة الواقع

ككل سنة، عاد تلاميذنا وطلبتنا في تونس إلى قاعات ومدرجات الدراسة يوم 15 سبتمبر  رغم كل صعوبات هذا العام بسبب الخلاف المستفحل بين نقابة التعليم الأساسي والحكومة.   إلا أن آلافا من أولادنا سينقطعون عن الدراسة هذا العام لان حلم العلم والتعليم انقطع في مصائرهم مبكرا تاركا المكان للبطالة والتشرد والمجهول بسبب الظروف الاجتماعية والمادية القاسية ونتيجة التهميش والفقر لعديد الأولياء. فظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم تسجّل ارتفاعا واضحا في ولايات داخل البلاد  بعيدا عن الساحل حيث يفتقد سكان تلك الولايات لموارد رزق قارة ويعانون من انتشار البطالة والفقر. عدد المنقطعين يرتفع من سنة إلى أخرى وقد بلغ في نهاية السنة الدراسية 2014 – 2015 نحو 100 ألف بحسب إحصائيات وزارة التربية. وأسباب هذه الظاهرة معقدة بلا شك، من أبرزها وأكثرها بداهة الوضع الاجتماعي وحالة الفقر المتفشية التي تعيشها مناطق كثيرة وخاصة تلك الواقعة بعيدا عن العاصمة وعن المناطق الساحلية.
 
التعليم مكسب ثمين لتونس لا يجوز أن نفرط فيه

ينصّ الفصل 39 من دستور27 جانفي 2014 على إلزامية التعليم حتى سن السادسة عشرة.و"تضمن الدولة الحقّ في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله، وتسعى إلى توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين". وان لم يرد مبدآ مجانية التعليم وإلزاميته صراحة في دستور 1 جوان 1959، فإن هذين المبدأين ظلا مستقرين في القوانين التونسية المتعلقة بالتعليم سواء ما عدل منها أو ما كان ساري المفعول  إلى اليوم. فمنذ مشروع إصلاح التعليم  غداة الاستقلال  والذي ارتبط اسمه بالأديب محمود المسعدي  والذي أنطلق العمل به مع أكتوبر من سنة 1958، نجد الإقرار الصريح  بهذين المبدأين. فالمشروع ينصّ على أن أبواب التربية والتعليم مفتوحة في وجوه جميع الأطفال ابتداءً من سن السادسة". كما يؤكد نفس الفصل على "إجبارية التعليم من السادسة إلى سن الثانية عشر من العمر". وهو ما أكده القانون عدد 118 لسنة 1958 والقانون عدد 65 المؤرخ في 22 جويلية 1991 المتعلق بالنظام التربوي. 

فقد جاء هذا القانون لتطوير النظام التربوي وتحديثه وجعله يتلاءم مع المقتضيات التنموية للبلاد. فتم تنقيح قانون 1958 وإرساء التعليم الأساسي الذي يمتدّ على  تسع سنوات وضبط أهدافا عصرية لمختلف مراحل التعليم (الأساسي، الثانوي والعالي). وكرّس القانون مبدأ إجبارية التعليم بمنع طرد الأطفال من المدرسة دون السادسة عشرة من التعليم الأساسي ونصّ على عقوبة في حال مخالفة هذا المبدأ. كما كرّس مبدأ مجانية التعليم وربطه بالقيم الاجتماعية والحضارية للبلاد
.

 

وما كرس مبدأ المجانية القانون عدد 70 لسنة 1989 المتعلق بالتعليم العالي والبحث العلمي وجميع النصوص المتعلقة والمتممة له وخاصة القانون عدد 67 لسنة 2000 الذي ينص في فصله 4 " التعليم العالي مجاني وهومفتوح للمتحصلين على باكالوريا التعليم الثانوي أو على شهادة معترف بمعادلتها لها وذلك حسب شروط عامة تضبط بأمر وقواعد خاصة داخل كل مؤسسة تضبط بقرار مشترك لوزير التربية والتعليم العالي والبحث العلمي والوزير المعني بالأمر وفقا للفصل 13 من القانون بعد أخذ رأي مجلس الجامعات ويمكن لمؤسسات التعليم العالي والبحث أن تسجل في مسالك تكوين معينة الأشخاص الذين تتوفر فيهم شروط الكفاءة التي تقوم مقام الباكالوريا والتي تنضبط بأمر.

 كما صدقت نونس في سنة 1991 على اﺗﻔﺎﻗﻴﺔ ﺣﻘﻮق اﻟﻄﻔﻞ الدولية التي ﺗﻌﺘﺮف بحق اﻟﻄﻔﻞ ﻓﻲ اﻟﺘﻌﻠﻴﻢ.
 
 
ما أوسع الفجوة بين القانون والواقع
 
ورغم ترسانة القوانين الداخلية أو الدولية التي صادقت عليها الدولة التونسية، أكّد وزير التربية ناجي جلول يوم 13 أوت 2015 أنّ وزارته أحصت مئات الآلاف من حالات الانقطاع عن التعليم، مشددا على ضرورة اتخاذ القوانين اللازمة والصارمة لتفادي انقطاع الفتيات عن التعليم.
   
واعتبر جلول في تصريح إعلامي على هامش إشرافه في ولاية بن عروس بضواحي العاصمة على ندوة بعنوان "معالجة الانقطاع المبكر للفتيات عن التعليم" نظمتها جمعية "تونس للجميع" بمناسبة عيد المرأة، أن الانقطاع عن التعليم لا يجب أن يتمّ اعتباره أمرا محتوما، ومن الضروري معالجته وإيجاد حلول لوقف الانقطاع المدرسي الذي قدره الوزير بنحو 100 ألف حالة في السنة الواحدة للفتيان والفتيات على حدّ سواء.

إن معضلة هذا النوع من الخاطبات هو نزوعها الدائم  إلى وهم  القدرة على تغيير الواقع بواسطة القوانين. لقد كان ذلك أمرا ضروريا في بداية الاستقلال بعد سياسة تجهيل شعب بكامله والذي مارسه الاستعمار الفرنسي على مدى ثمانين سنة. في حين إن الأمر يتعلق اليوم  أساسا  بالقدرة على الفعل في الواقع ذاته بواسطة إجراءات واقعية ملموسة وسياسات تنموية مدروسة. فظاهرة الانقطاع المبكر عن التعليم بالمناطق الداخلية هي ابعد مدى بلا شك من مجرد اتخاذ تدابير تشريعية.

فالبلاد كما ذكرنا تتمتع بمنظومة تشريعية لعلها من أفضل التشريعات في العالم. وتقع القضية في قلب معضلة التهميش الاجتماعي والفقر والخصاصة وهو ما يتفادى الحديث عنه وزراء التربية مفضلين كالعدة  الاختباء وراء التشريعات و القوانين.   

لقد بدأت ظاهرة الانقطاع عن التعليم في تونس  في الظهور منذ عدة سنوات مضت وتواصلت في التفاقم من سنة إلى أخرى وتتراوح أعمار المنقطعين ما بين 13و19سنة. وتعود أسباب هذا الانقطاع إلى عدة عوامل. ولكن من أبرزها العوامل الاجتماعية كالخصاصة والفقر والفوارق الطبقية بين تلامذة المناطق الريفية  من جهة وتلامذة العاصمة وجهات الساحل من جهة أخرى. وهو ما يسبب ضعف النتائج المدرسية  لتلاميذ الريف عاما بعد عاما في ظل نظام تعليمي فاسد يقوم على النجاح شبه الآلي ودون استحقاق وما يؤول إليه كل ذلك من عجز المتعلم عن مواكبة تشعب المواد وتفرعها وشعور بالنقص وهروب من قاعات الدرس ويأس من مواصلة الدراسة. والى جانب هذه الأسباب، نجد سببا تعرفه وزارات التربية وتكاد تتغاضى عنه، وهو انعزال الأحياء الريفية وبعدها عن المؤسسات التربوية، الشيء الذي يجبر التلاميذ على قطع مسافات بعيدة مشيا على الأقدام في ظل غياب الطرق المعبدة أو المسالك الفلاحية التي توصلهم إلى مقرات إقامتهم في الجبال والوديان. وغالبا ما تكون مغادرتهم لمنازلهم وخصوصا الفتيات (بما يتهددهن من الاغتصاب) في ظلام الفجر في أيام الشتاء ليصلوا مع ليل الغروب إلى منازلهم وقد فنيت أجسامهم الضعيفة.  هذا إذا استطعنا الحديث عن مؤسسات تربوية أصلا، لأننا في كثير من الحالات أمام مبان متداعية للسقوط بلا تجهيزات بيداغوجية ولا مصارف صحية ولا ماء صالح للشراب وبلا أسوار تمنع الخنازير والذئاب إلى الوصول إليها وبأقسام يدرس فيها المعلم في فوج واحد مستويين مختلفين لغياب الإطار المدرسي. انطلاقا من هذه الأسباب، يتولد لدى الكثيرين من هؤلاء التلاميذ شعور بالعزوف عن الدرس الذي يتنامى تدريجيا ليصبح عاملا أساسيا في الانقطاع المبكر عن الدراسة. وبحسب دراسة قامت بها في سنة 2015 جمعية مواطنون بجهة قفصة (واقعة في الجنوب التونسي وتبعد 500 كلم عن العاصمة) حول أسباب الانقطاع المبكر للفتاة الريفية عن الدراسة في 3 ولايات داخلية وهي جندوبة وقفصة والقصرين وهي الولايات التي كانت مهد الثورة التونسية، فإن أسباب الانقطاع تعود إلى عوامل اجتماعية:  

–         انعدام مورد رزق
–         صعوبة توفير مستلزمات الدراسة
–          الزواج المبكر للفتاة الريفية
–   تشغيل الفتاة الريفية لتوفير دخل إضافي إلى العائلة ( خادمات منازل عاملات فلاحيات )
– تفضيل استكمال دراسة الأبناء الذكور لقلة الموارد
–  صعوبة الظروف المادية وتدني المستوى الثقافي للعائلة
–  التفاوت بين الجهات وانعدام النقل المدرسي
– ظاهرة التحرش الجنسي بالفتيات
– مخاطر الطريق الموصلة إلى مدارس نائية (الحيوانات المفترسة والفيضانات الموسمية).   
 وبشكل عام  ترى كثير من الأسر في الريف التونسي بحسب تحقيق نشرته يومية تونسية يوم العودة المدرسية "أن الفتيات يد عاملة مجانية تساعد على تحمل أعباء الحياة كالأعمال المنزلية وتربة المواشي بل ترسلهن كخادمات لدى الأسر الثرية في العاصمة. وقد تحولت ولايات الكاف وجندوبة والقيروان وسيدي بوزيد إلى منجم سخي من العاملات في المنازل رغم صغر سنهن  ( جريدة الصباح 15 سبتمبر 2015).
       
 
صرنا نشعر بالخجل 

إننا  مع  ترسانة  القوانين التي تحدثنا عنها وبؤس الواقع الذي رسمناه هنا صرنا نشعر بالخجل اليوم ونحن نتحدث عن مجانية التعليم والزاميته. فلم يعد يقدر على مصاريفه غير الميسورين وذلك لبؤس الواقع الاجتماعي لجهات بأكملها وارتفاع ثمن كلفة المستلزمات المدرسية وكلفة النقل ومحنة الدروس الخصوصية. أما التعليم العالي فحدث ولا حرج  حيث يجبر كثير من الطلبة على ترك الجامعة لعدم توفر مصاريف السكن والإقامة. ولكل ذلك، فإنه لا معنى لثورة يتحدث عنها البعض اذا ساء الوضع بعد 14 جانفي 2011 . لقد كانت الانتظارات كبيرة بتحقيق التنمية والتشغيل والعدالة الاجتماعية. إلا انه من المفارقات العجيبة أن الجهات التي اندلعت فيها شرارة الثورة وهي الجهات الداخلية هي اليوم الجهات الأكثر تضررا والأكثر بؤسا. إن انتشار الأمية والجهل في مناطق كثيرة من البلاد لن تترك أي معنى لا للديمقراطية ولا لأية حياة سياسية راقية لان المواطن الفقير الذي ما زال يعيش  على وعود السياسيين في كل حملاتهم الانتخابية وعلى رأسها مقاومة الفقر والتهميش لن يستطيع غدا أن يميز بين حزب وآخرـ وسيجد نفسه مجبرا إما على اليأس من أي إصلاح  ومقاطعة العملية السياسية برمتها  أو على ممارسة العملية الديمقراطية وهو يجهل قواعدها ومستلزماتها وقد حرمه واقعه المتردي من القدرة على أي تمييز. إن الثورة تبدأ عندما  تصبح المدرسة حقا للجميع ومصعدا اجتماعيا وحلما يراود الأبناء والآباء في كل جهات البلاد. فليست كليات الطب والصيدلة والهندسة حكرا على أبناء الذوات من الجهات المحظوظة كما تشير إلى ذلك كل الإحصائيات التي تنشرها وزارة التعليم العالي حول حظ جهات البلاد في وصول أبنائها إلى كليات الطب مثلا .  

إن الدولة مطالبة هي أولا بأن توفر للمدرسة كل مستلزماتها وظروفها وبنيتها التحتية  وإطارها الاقتصادي والجغرافي والعائلي. وهي لذلك مطالبة بحسب ما يقرره الدستور التونسي نفسه بأن تمارس سياسة التمييز الايجابي كما نص على ذلك الفصل 12: "تسعى الدولة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات، استنادا إلى مؤشرات التنمية واعتمادا على مبدأ التمييز الايجابي. كما تعمل على الاستغلال الرشيد للثروات الوطنية " ...ذلك حق الجهات المفقرة التي نسيتها السياسات المتعاقبة جيلا بعد جيلا ووزارة غبّ  وزارة …            
                                                  .                                            
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا  

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني